إلَيْكِ يَا أُمَّ الشَّهيدْ
سَأكتُبُ بدَمِي شَهادَةَ مِيلادِي . . . لأعَيشَ كَما أُريدُ ولَنْ أُبَالِي
د . سعيد محمد أبو صافي
كاتب وباحث ، الجامعة الحرة ـ برلين ، ألمانيا
لقدْ علَّمنَا الشُموخُ الذي يسكنُ قَلبَكِ . . . وعشَّشَّ في وُجدانِكِ ، واستقرَّ في عقلِكِ أَنْ نُقَبِّلَ تُرابَ الأَرْضِ تَحْتَكْ . . . قومي أمَّ الشهيدِ وانفِضِي غُبارَ الحُزنِ عن قَلبِك . . . وامسَحِي بيديكِ الطَّاهرَتينِ دُموعَ الألمِ عن وجنتيكِ ، وألقِي بالأَنينِ في وحْلِ اليأسِ ، وتسلَّحي بسلاحِ الإيمانِ والبسمَةِ ، وتَوِّجِي جَبِينَكِ العَالي بتاجِ الأمَلِ والبِشَارَة . . . فبيديكِ هَاتَينِ صَنَعْتِ الفَتحَ والفِدَا ، وغَرَسْتِ الشّجاعَة . . . بقَلبِكِ الصَّامِدِ روَيْتِ القوةَ والحَمَاسْ ، وأَعلَيْتِ جَبْهَةً وجِهَادْ ، ولوَّحْتِ لكَتَائِبِ الشّهدَاءِ ، وأَعَدْتِ أمْجَادَ القَسَّامْ ، فَحصدْتِ أجملَ ثمرَةٍ . . ثَمرةَ العِزِّ والشُّموخْ ، لقدْ قَدَّمْتِ برُوْحِكِ وعقلِكِ وَوُجدانِكِ أجْمَلَ هَدِيَّةٍ للوطنْ . . .
سَأكتُبُ بدَمِي شَهادَةَ مِيلادِي ، لأعَيشَ كَما أُريدُ ولَنْ أُبَالِي . . . هَكذا قالَ الشهيدْ . . . يَموتُ السفَّاحُ ولا يمُوتُ الشهيدْ ، يَبقَى حَياً كطَائِرِ العَودَةِ الَّذِي يُحَلِّقُ عَالِيًا فوقَ أَبْراجِ الاحتلالِ . . .
زَغرِدِي أمَّ الشّهيدْ ، فَلمْ يكن ابنُكِ إلاّ قِنديْلاً أنَارَ ظُلمَةَ الطَّريق ، ولمْ يكُنْ إلاّ سَيفاً مَسلُولاً قَطَعَ رقَابَ المُعتدينَ الغَاصِبينَ ليرْفَعَ جَبينَ الأُمَّةِ عَالِياً مُرَفرفاً في سَماءِ الوَطَنْ . . . ولَمْ يَزحَفْ ابنُكِ إلاّ إلى العَليَاءِ طَائِراً يحْمِلُ بينَ جَناحَيْهِ بطَاقَةَ حُبٍّ ينْشُرُهَا في رُبُوعِ الدُنيا .
كُلُنا أبنَاؤُكِ أُمَّ الشّهيدْ . . . فلا تَبكِي أُمَّ الشّهيدْ . . . ولا تَمْلأي الدُنيا عَويْلاً ، فمَا البُكَاءُ إلاّ للفَقِيدْ . . . لم يكُنْ ابنُكِ إلاّ رُوحَاً عَطِرَةً فَاضَتْ إلى جَنَةٍ وخُلُودْ ، وتَركَتْ ورَاءهَا نَسِيْمَ مِسْكٍ نَسْعَدُ بِرَائحَتِه . . . فمَا أنْتِ إلاّ جَبَلاً شَامِخاً صَامِداً يتَحَدّى كُلَّ الصِعاب ، ومَا أنْتِ إلاّ شُعْلَةً وانْتِفَاضَةً أنَاَرَتِ الطّريقْ . . . وشَمعَةَ نُوْرٍ أضَاءتْ قُلُوبَ الثّائِرِينَ ليَسْحَقوا كُلَّ جَبَانْ . . .
مَا أنْتُم أيُّها الشُّهداءُ إلاّ أنْشُودَةَ الخُلودْ . . . فبدِمائِكُمُ الزَكِيَّةِ سُطِّرَ التَاريْخْ ، وبأَيْديْكُمُ الفَتيَّةُ صُنِعَتِ الحضَارةْ ، وبمَجْدِكُم رَفَعتُمْ لوَاءَ الأُمَّة . . . فكَانَتْ قُوَّتُكُمْ أمَامَ ضَعفِهِمْ . . . وشَجَاعَتكُمْ أمَامَ جُبْنِهمْ . . . وحِجَارَتكُمْ أمَامَ نَارِهِمْ وبنَادِقِهِمْ. . .!!!
فمَهْلاً أُمَّ الشّهيدْ . . . لابُدَّ منْ بُزُوغِ فَجْرٍ جَدِيدْ . . . ومِنْ ظُهُورِ شَمْسِ الحُرِيَّة . . . ومنْ إِعْلاءِ بارُودَةِ الحَقِّ والفَتْحِ المُبِينْ .
( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) صدق الله العظيم .
"هذه الكلمات مهداةٌ إلى أمي . . وإلى أمهات الشهداء . . كل الشهداء ، بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل الشهيد الاستشهادي ، أخي المجاهد : نور الدين محمد أبو صافي ، في فلسطين بتاريخ 15/12/2000" .